أنفاس الوداع
بقلم / الدكتور : محمد بغدادي
ما أشد لحظات الوداع وما أعمقها على النفس وما أعظمها على الجسد خاصة عندما يكون العشق قد وصل ذروته وتملك من الروح وأخذ ينتشر انتشار النيران في الهشيم مع الدماء حينما تتنقل من القلب لجميع أجزاء الجسم. فها هو رمضان قد ينتوي على الرحيل وأخذ يلملم أوراقه وها هي طائرته في المطار قد استعدت للإقلاع بعد أن تعلقت قلوبنا به وأحبت أفئدتنا هوائه وتغلغلت أجسادنا بصلواته وعشقت أنفسنا صيامه ونظفت زكاته أموالنا ورحمت دعواتنا أمواتنا ورفعت صدقاتنا درجاتنا وارتاحت نفوسنا وهدأت موجات التفكير المميت التي قاتلتنا طوال العام في النوم واليقظان وأصبحنا ملائكة نصوم ونصلي ونذكي ونتصدق ونقرأ القرأن ونهدأ ونتريث براحة نفسية يملؤها الصمت الجميل الذي أخذنا في دنياه المباركة وعالمه الأخر كما تحدث القرأن المعظم بأنها أياما معدودات وأن الله يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر . سيغادر رمضان كأشياؤنا الجميلة ذات الأحلام الورديه وسيرحل رمضان كأيامنا ذات اللحظات السعيدة وسيترك رمضان آثاره الخالدة على قلب المؤمن التقي النقي. فدائما وأبدا الأيام الجميلة قليلة وبسيطة والأشياء القليلة لها طعم خاص ومذاقها كطعم طعام الملوك على النفس والروح والجسد أما الأشياء الكثيرة فليس لها طعم وإنما هي غثاء كغثاء السيل . فلو أن هناك كل شهر عيد لما أصبح للعيدين مكانا خاصا في قلب كلا منا ولو أن شهور السنة كلها رمضان لما أصبح للشهر المعظم قوة داخل قلوبنا. سيرحل رمضان ومعه توبتنا ومعه تقصيرنا ومعه كشف حساب لنا جميعا بما قدمناه وبما أخرناه. لم يتبقى لرمضان إلا بضعة أيام بل ساعات بل ثواني بل أنفاس تتأرجح يمينا ويسارا لتعلن أنها النهاية كنهايتنا جميعا فسنرحل نحن كما رحل رمضان وكما يتحدث العلماء أنه عندما يكون هناك بدايه حتما سيكون هناك نهاية . فالجبال بجبروتها لها نهاية والسماوات لها نهاية والأراضين لها نهاية والبحار والمحيطات والأنهار والجماد والحيوان والانسان وكل شيء . وسيرحل رمضان ولم يبقى له إلا ليلة والتي هي أفضل من ألف شهر ولم يبقى لنا إلا دعوات أمام الناس ودعوات داخليه تقع بين جنباتنا ولم يعلم بها إلا الملك الجبار . فرمضان ترويه وترويض وتربية وإعادة هيكلة للنفس وإعادة ضبط للجسد في طعامه وشرابه ليتخلص من سمومه وأسقامه المعهودة فكثرة الطعام ما هي إلا وباء يقود الجسد للهاويه. فكر جيدا هل سيأتي رمضان القادم وأنت هنا أم هناك فلا تستطيع أجهزة التنبوءات ولا العرافات أن تتوقع ماذا سيحدث وكما تحدث القرأن ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت. سلاما رمضان وإلى أن نلتقي في أعلى الجنان.