
بقلم د/ محمد بغدادي
يكاد كلا منا أن يقع فريسه مثلما وقع آبائنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا وأمهاتنا وأمهات أمهاتنا . لا استثني أحد من الموت فهو حقيقة كبرى تتربص بنا ليلا ونهارا سعداء كنا أم غير ذلك جاهلين أم علماء طيبين أم خبثاء سيرا على أقدامنا أم جالسين على مقعد في طائرة مكيفة.
فلو نظرنا لخمسة سنوات ماضية بل عشر سنوات بل عشرون سنة بل أربعون سنة سنرى أناسا كانوا أحياء مثلنا يرون ويسمعون ويتكلمون و يضحكون ويبكون ويشاهدون ويسافرون ولهم أطفال ولهم نساء ولهم أحلام وأمال وطموحات يكاد كلا منهم أن يحيا مائة ألف عام بحساباته الصغيرة وتفكيره المحدود ورؤيته المعدومة وتناسى أن السنوات والأيام والشهور لها حسابات آلهيه وطاقة علويه تدير المشهد بإدارة بالغة الديناميكية والصعوبة.
فعندما أسير في الطرقات أجد طرق ومنازل ومساجد وكنائس وأزقه وحارات ودور مناسبات كانت مليئه بأشخاص أخرون صغارا كانوا أم كبار رجالا كانوا أم نساء لطفاء كانوا أم حمقى ولكنهم الأن تحت التراب بأحلامهم وطموحاتهم وأعمالهم وتفسيراتهم وما يحبون وما يكرهون. وكأن شريط الحياة ممدود علينا جميعا وكأنه قطار يمر والبعض ينزل في موعده المحدد مسبقا.
كنت أقول لنفسي أين الاباطره وأصحاب الأموال والقادة وذوي الحكمة فأجد نفسي تجيب على نفسي هم قد فارقوا الحياة. فأين العروس التي زفت لزوجها فهي قد زفت لقبرها ليلة الزفاف في حادثه من أبشع ما يكون وأرى في نفس التوقيت من كان مريضا لسنوات وسنوات وهو الآن لا يزال جالسا أمامنا وها هو الصغير الذي لم يبلغ الحلم قد فارق الحياه وها هي العجوز التي جاوزت التسعين خريفا لا تزال تصلي وتضحك ولها ذاكرة أفضل من ذاكرتي وها هو رجل البر الذي لا تخلو أيامه من خيرا يفعله كل ساعة أراه الآن نائما في قبره فرحانا سعيدا وقصره الذي كان يسكنه في دنياه لا يزال واقفا صامتا ويسكنه أبناؤه. وها هو الرجل الغني الذي كان يتمتع بجلبابه الانيق وكان يهز الأرض هزا فها هو في أقل من يومين قد فارق الحياة. والذي تزوج لمدة عشرة أعوام لينجب طفلا وأصبح الطفل شابا يافعا فاختطف الموت شبابه ورحل.
دنيا غريبه مليئه بالأحداث والعظات والخبرة والحرارة الشديدة والبرد القارص ترى فيها الخير والشر تحب أشخاص وتكره أخرون ونهايتها موت محقق فأين الرومان والفرس وأين الحضارات القديمة وأين من أشعلوا الحروب العالمية الأولى والثانية وأين من اكتشفوا أمريكا وأين مخترع الهاتف واين الفقراء وأين الأغنياء وأين ذوي النفوذ.
أراني الآن اصرخ ثم أبكي وأقول الذي يدرك الحقيقة جيدا لا يضحك كثيرا ولكن يعتبر كثيرا ويتقرب لخالقه على قد المستطاع ليس لكل يوم بل كل ثانيه لإن الموت لا يستأذن أحد ما عدا النبي المعظم فنحن موتى أبناء موتى فاقدي الأهليه وتبقى المنازل شامخه والشوارع كما هي أما السكان فقد رحلوا رحلوا رحلوا.