لقاء الفرص الذهبية لمستقبل مصر (2)

بقلم: د. مدحت محمد الرفاعي*
استكمالًا لما بدأناه في الجزء الأول من الحديث الذي دار بين القامات الفكرية المصرية في مختلف المجالات مع رئيس الوزراء في مطلع شهر أكتوبر 2024 جاء الجزء الثاني من اللقاء للحديث عن الشق الاقتصادي والذي تحدثت فيه أستاذتي الجليلة د. عالية المهدي، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سابقًا، والتي تحدثت عن أهمية التركيز على الصناعة خاصة في ظل أن الأزمات الخارجية تؤثر بشكل كبير على مصادر العملة الصعبة الأساسية وهي تحويلات العاملين في الخارج والسياحة وقناة السويس، فيما نتملك فرصة أكبر في التحكم داخليًا في الصناعة من خلال دعم الصناعات المُصدرة والزراعة.
مع توضيح أن الصناعة المصرية تعاني من معوقات كبيرة في الحصول على الأراضي وتكلفتها على العملية الأساسية وهي الإنتاج والتصدير، وكذلك ارتفاع تكلفة الطاقة التي تحصل عليها المصانع عكس ما جرى العمل به في العالم، فالعالم يقدم الكهرباء للقطاع المنزلي بسعر أكبر من القطاع الصناعي كثيف استهلاك الطاقة باعتباره قاطرة الاقتصاد، كما يعاني المُصنع المصري من تعدد الرسوم واختلافها والجهات التي تقوم بتحصيلها منه بما يشكل ضريبة إضافية على الصناعة تمثل عبئًا لا يمكن إغفاله على الصناعة المصرية ويرفع من تكلفة الإنتاج وبالتالي يكون عائقًا أمام التصدير ومنها ارتفاع تكلفة النقل ورسوم النقل على الطرق الجديدة (الكارتة وارتفاع أسعارها لوسائل النقل ونقل المعدات الثقيلة وتفاوتها بشكل كبير وواضح ومؤثر) إلى جانب مشكلة ارتفاع تكلفة توصيل واستخدام المرافق للمصانع مما يدفعها للإغلاق في كثير من الأحيان أو تغيير النشاط بعيدًا عن الصناعة وبعيدًا عن الاقتصاد الرسمي هروبًا من المعوقات الروتينية التي تواجه هذا القطاع وتعدد الجهات الرقابية ومُتطلباتها من المُصنعين التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى الهروب من الصناعة تمامًا.
وعودة للقضية الأساسية التي تشغل الجميع وهي التعليم أشارت د. عالية بأن مستوى الطلاب الذين يدخلون الجامعة حتى أعلاهم في الدرجات والذين يدخلون كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي أشرف أنا شخصيًا كاتب هذا المقال بأنني أحد أبنائها وكان أساتذتي عند دخولي الكلية يقول لنا باللغة الفرنسية أنتم (la crème de la crème) أي أفضل الأفضل أو كريمة الكريمة، وهذا الأمر اختلف حاليًا حيث تقول إن جودة الطلاب أصبحت أقل بكثير وقدرتهم على الكتابة والتعبير عن أنفسهم تراجعت بشدة وهو أمر يتطلب مُراجعة التعليم ما قبل الجامعي ومناهجه كما يتطلب ضرورة سد العجز في المدرسين الذي بلغ وفقًا لما يُنشر من بيانات 450 ألف معلم على مستوى مصر وهو رقم ضخم جدًا، على الرغم من وجود خريجين مُتعطلين عن العمل من كليات التربية المُتخصصة في إعداد المعلم الكفء على مدار سنوات طويلة وأن فكرة الاستعانة بمدرسين بالحصة وممن خرجوا على المعاش أمر غير مفيد للعملية التعليمة حيث لا يشعر المعلم بالولاء والانتماء لمهنته ولا لمدرسته ولا لطلابه، ولكن تعيين الخريجين الشباب هو الضرورة والأولية لسد هذا العجز فالتعيين هنا لم يعد رفاهية أو لمجرد تشغيل الخريجين وتقليل مُعدلات البطالة ولكن لضرورة حتمية لعودة المدراس الحكومية لوضعها ومكانتها الطبيعية التي فقدتها بالتدريج على مدار السنوات الطويلة الماضية، مع ضرورة قيام وزارة التربية والتعليم بمراجعة مناهج المدارس الدولية التي تحتوى معلومات مغلوطة حول مصر وتاريخها منها ما هو كارثي مثل أن يتم تعليم الطلاب أن مصر خسرت حرب أكتوبر 1973 وأن إسرائيل هي من انتصرت في الحرب فهل يُعقل أن يتعلم طلابُنا على أرض مثل هذا الكلام الكاذب.
وفي مجال الاستثمار تحدث الدكتور هشام إبراهيم، أستاذ التمويل والاستثمار أن إنفاق ما يزيد على 10 تريليون جنيه في الفترة الماضية على البنية الأساسية بهدف تحسين معيشة المواطن وجذب الاستثمار وتحسين مناخه في الوقت الذي يظل فيه رقم الاستثمار لا يتجاوز 14 مليار دولار وهو رقم ضئيل للغاية وعلى الأقل يجب العمل بكل جد لأن يتضاعف هذا الرقم بأسرع وقت ممكن من خلال تهيئة المناخ من كافة النواحي لجذب الإستثمار الأجنبي المنشود، إضافة إلى ضعف أرقام الادخار الداخلي نظرًا لارتفاعات الأسعار الكبيرة التي شهدتها مصر خلال الفترة الأخيرة وصعوبة قيام الأفراد بالادخار، لذا يجب أن نبذل مجهودًا كبيرًا في الترويج للاستثمار الخارجي في مصر، ولنستعيد فكرة بعثة طرق الأبواب غير الحكومية التي كانت موجودة فيما سبق حيث أن مصداقيته رجل الأعمال المصري لدى الخارج أكبر من مصداقية المسئول الحكومي في الواقع وبالتالي سوف يقدم دعاية كبيرة لمصر خاصة مع دول كالصين واليابان وأمريكا ودول الإتحاد الأوروبي.
فيما يتعلق بقطاع السياحة نحتاج أن تكون المُنشأت الفندقية في مصر يتملكها الأجانب لأنه عند حدوث مُشكلة في المنطقة سيكون المستثمر الأجنبي أسرع من الدولة في السعي لتجاوزها سريعًا حفاظًا على استثماراته ومصالحه في قطاع السياحة المصري وبالتالي سيتحمل هو العبء الأساسي في مواجهة العالم الخارجي وإعادة وجذب السياحة في فترات الأزمات إلى جانب ضمان تدفقات كبيرة في الفترات الطبيعية وهو ما يؤدي إلى تضاعف الأرقام من العملة الصعبة من السياحة وضمان الاستدامة والاستمرارية لهذا التدفق، لذا يجب الإسراع والتوسع في تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية في هذا الشأن، ونقل ملكية المُنشأت السياحية لكيانات أجنبية كُبرى مع توضيح هذه الفكرة وفوائدها للمجتمع، وأخيرًا التأكيد على أن فض التشابكات المالية ووحدة الموازنة أمر ضروري للغاية لضامن الاستقرار الاقتصادي.
فيما أشار الدكتور عبد الفتاح الجبالي، الخبير الاقتصادي إلى وجود تراجع كبير في معدلات النمو حيث بلغ (2.2%) بسبب تراجع الإستثمار الأجنبي وتراجع معدلات الادخار المحلي بشكل كبير يزيد من تلك المُشكلة غياب الشفافية وحرية تداول المعلومات حتى أن موقع أحد الوزارات لم يتم تحديث النشرة الشهرية فيه منذ إبريل 2021 وفي الوقت ذاته غياب التنسيق بين الوزارات حيثُ أعلن مؤخرًا أحد الوزراء إلغاء ضريبة وبعدها بثلاث أيام خرج مسؤول أخر مُصرحًا بأنه جاري تعديل هذه الضريبة ولن يتم إلغاؤها.
كذلك تم التأكيد على أهمية وضع سقف للدين بشكل صريح وواضح ومعلن للجميع لضمان الارتقاء في مؤشر الشفافية الذي يُمثل عنصرًا مهمًا في تطوير وتحسين الوضع الاقتصادي وإضافة المزيد من الثقة للاستثمار في مصر، مع دراسة بدائل خروج الاستثمار العام دون إحلال الإستثمار الخاص محله بما يؤدي بشكل كبير إلى استمرار التراجع في مُعدلات النمو وبالتالي ينخفض مستوى معيشة الفرد ومعدل الدخل ومشكلات اقتصادية واجتماعية لا حصر لها، في الوقت الذي تقوم فيه الحكومة برفع أسعار الخدمات تعلن أن هدفها هو خفض التضخم وهو ما لا يمكن حدوثه بهذا الوضع القائم.
تطبيق وحدة الموازنة وشمولها سوف يقوم بدعم قطاعي الصحة والتعليم بالشكل المطلوب ويُغير فكرة ضيق الحيز المالي للدولة وهو غير صحيح على أرض الواقع، فلدينا على سبيل المثال في أخر موازنة حققت البنوك العامة المملوكة للدولة صافي ربح 130 مليار جنيه وما يؤل للدولة مُمثلة في الخزانة العامة للدولة وهي المالك فقط 4 مليار جنيه؟!
وفي الشق الأخير من الحديث تم تناول الجانب الثقافي والاجتماعي والرياضي حيث أشار أ.محمد سلماوي، بأن دور الدولة في رعاية الثقافة يجب أن يتغير فالأوبرا الأمريكية ميزانياتها كانت منذ خمس سنوات حوالي 150 مليون دولار تأتي كلها من تبرعات القطاع الخاص وفي الوقت نفسه ميزانية الأوبرا المصرية العريقة 15 مليون جنيه وذلك بسبب خلل في القانون الضريبي الذي يخصم نسبة 15% فقط من قيمة التبرع من الوعاء الضريبي أما في أمريكا فيتم خصم كامل المبلغ من الوعاء الضريبي لذا تتدفق التبرعات على العلم والثقافة، عكس الوضع في مصر، لذا يجب أن يتغير دور الدولة ويقوم القطاع الخاص بالتمويل ولا يصح أن نقول أن الثقافة ليست من الأولويات بل هي من الضروريات لتطور الدولة وقيام نهضة حقيقية في مصر، كذلك لدينا مشكلة في الإعلام، وهي غياب تواصل المسئول مع الإعلام وهو ما يسبب مشكلة الشائعات فليس لدى المواطن المعلومات وعلى سبيل المثال لدينا وزراء في الحكومة الجديدة لم يعقدوا مؤتمرًا صحفيًا واحدًا حتى اليوم لعرض رؤيتهم وخُطتهم لقيادة الوزارات التي يتولونها، وأخيرًا ضرورة الإسراع في تعديل قانون الإجراءات الجنائية بشكل صحيح حسبما تم التوافق عليه في الحوار الوطني مع الحكومة.
وعلى الجانب الرياضي أشار أ. حسن المستكاوي، الناقد الرياضي، إلى أن الرياضة هي نشاط إنساني يستطيع حشد الجماهير وإسعادها بسرعة فائقة وتستطيع تهذيب السلوك الإنساني، مُشكلتنا في الرياضة هي مشكلة إدارة بالأساس وعدم ربطها بالتقدم في هذا المجال وبالتقدم التكنولوجي ما يحدث لدينا طفرات شخصية مثل البطل الأوليمبي أحمد الجندي بطل الخماسي الحديث والذي حقق الميدالية الذهبية في أولمبياد باريس مؤخرًا.
ميزة كبيرة أن نكون في دولة 60% من أبنائها شباب، وبالتالي يجب أن يكون لدينا طفرة رياضية حقيقية، والحل يكمن في إنشاء شركات رياضية وهذا يعوقه قانون الرياضة الذي يجب تعديله بما يتيح للاستثمار الأجنبي الدخول للرياضة المصرية، كما يجب مراجعة تدخل مؤسسات الدولة في منافسة مع الفرق الرياضية في كرة القدم على حساب الأندية الشعبية، وإنفاق ملايين الجنيهات في هذا النشاط الرياضي غير الهادف للربح والذي لا يقدم شيئًا لكرة القدم وشعبيتها؟!
كما نحتاج نشر ثقافة أنه لا يجب أن يحصل كل لاعب مصري مُشارك في الأولمبياد على ميدالية فالمُنافسة شرسة جدًا وفي الأولمبياد الأخير تم توزيع 1070 ميدالية من أصل 11000 ألف مُشارك وبالتالي فالنسبة لا تتجاوز 10% من المشاركين يحصلون على ميداليات.
وفي الختام تناول د. سعيد المصري، أستاذ علم الاجتماع، الجانب الاجتماعي في مصر في ظل أن مصر أصبحت مقصدًا للاجئين وخطورة الحملة الإعلامية المنتشرة ضدهم في مصر وما تحتويه من تحريض خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما لا يتوافق مع قيم وموروثات المجتمع المصري وتؤثر على التماسك الاجتماعي للبلاد، كما يجب أن نقنن عملية دخول اللاجئين المؤقتين ويكون لدى الحكومة سياسة واضحة في التعامل معهم.
مع التأكيد على ضرورة إعادة النظر في أسلوب تعامل الحكومة المصرية مع الشائعات من خلال قيامها بنفيها وهو ما يؤكد الشائعات ولا يقضي عليها، ولكن لابد من حرية تداول المعلومات وخاصة الشفيهة منها وهي ما سوف يُحارب الشائعات بشكل فعال.
إن إمعان النظر فيما ذكره المشاركون في هذا الحوار الفكري الراقي السالف التطرق إليه يؤكد أن لدينا وعيًا كاملًا من جانب المُفكرين والخُبراء المصريين في كافة المجالات بالتحديات المُحيطة بالدولة المصرية وأن لديهم حلولًا مميزة لتلك الأزمات والتحديات والتي يجب على الحكومة أن تقتنص هذه الفرص الذهبية في التعاون مع أمثال أولئك المُفكرين والخبراء كل في مجاله من أجل وضع الخُطط والسياسات السليمة لمواجهة تلك التحديات وتحويلها لفرص للنجاح من خلال سياسات الاستدامة التي تنظر للمستقبل بغض النظر عن الأفراد القائمين بالتنفيذ والتي تعتمد على قياس الأثر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على مختلف المؤشرات التي تُحدد مدى نجاح تلك السياسات مع وجود التغذية العكسية، والتقييم لما يتم تنفيذه من سياسات بشكل دوري وفعال ومُخطط قبل البدء في التنفيذ بما يضمن عدم التمادي في سياسات خاطئة يترتب علها خسائر يصعب تداركها.
لذا فإن وجود رقابة من السلطة التشريعية والقضائية على أعمال السلطة التنفيذية، بما يضمن تحقيق الفصل المتوازن بين سلطات النظام السياسي الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وتفعيل الرقابة المُتبادلة بينها واحترام كل منها للاختصاصات الوظيفية المنوطة بالسلطة الأٌخرى وفقًا للقواعد الدستورية والقانونية المرعية والمعتمدة بما يُساعد على بناء نظام النزاهة الوطني الذي يقوم على توسيع قاعدة المُحاسبة الأُفقية إلى الحد الذي لا تعود القوة في يد سلطة واحدة، ويُصبح كل من يشغل منصبًا عامًا مسؤولًا عن عمله على نحو مُنفصل في حلقة مُتصلة، كما يقوم على برنامج إصلاح كلي يشمل جميع القضايا والمجالات المتصلة بنظام الحكم.
حفظ الله مصر وشعبها ورعاها، وتحيا مصر حُرة أبية متقدمة قوية.
* مُستشار السياسات العامة والتنمية المحلية
دكتوراه في الإدارة العامة – جامعة القاهرة